يان فان إيك
(1390- 1441)


ومن أبرز طلائع هذا الفريق الفلمنكي المصوّر يان فان إيك Jan Van Eyck، ذلك أن مجتمع التجّار الذي اندفع بشدّة وراء الكشف والاستطلاع والمغامرة لم يقنع بشدّ الفنانين نحو العالم الدنيوي فحسب بل حفزهم أيضاً على الابتكار والتجديد. فلوحتا "آدم وحواء" من تصوير يان فان إيك واللتان تقاربان الحجم الطبيعي كانتا من الجرأة بمكان كبير لأنهما من أوليات الصور الضخمة العارية في تصاوير شمال أوربا، بل إن عريهما ما يزال حتى يومنا هذا يثير الإعجاب في عيون النظارة إلى حدّ الانبهار (لوحة 395 أ، ب) إذ كان فان إيك يجد في المظهر الطبيعي نبعاً ثرّاً يغترف منه أكثر مما تشدّه الابتكارات المثالية ففاق في ذلك أستاذ فليمال. وهكذا تكشفت صورتا آدم وحواء في هذه اللوحة عن تقييم جديد للشكل الآدمي، عبّر عنه الفنان بإدراك أكثر تقدّماً لقواعد المنظور وقوانين استخدام الضوء. فعلى حين كان آدم رمز الخطيئة الأصلية يبدو على الدوام منحنياً من فرط خزيه وندمه نراه الآن يقف منتصباً داخل كوّته باعتباره الإبداع الأوّل للخالق. وتتّخذ حواء وضعة طبيعية يلعب الضوء والظل دوراً بارزاً في تجسيمها لتبدو في واقعها الطبيعي الحي على الرغم من شكلها التقليدي الذي عهدناه في الطراز القوطي الدولي بثدييها الناهدين وبطنها المنتفخة.
وفي مبدأ الأمر شارك يان فان إيك شقيقه هوبرت العمل إلى أن استقل بنفسه بعد وفاة الأخير، ثم عكف على تجاربه في تطوير فن المنظور والتصوير الزيتي الذي بدأه "أستاذ فليمال"، وكانت هذه التجارب جميعاً تقنيات مبتكرة تستجيب لذوق الفن الواقعي الجديد وتتوافق معه، فقد أتاحت الألوان الزيتية سلّماً للتدرّجات اللونية أشد غزارة ورقّة من مواد التلوين السابقة، فضلاً عن إمكانيات التدرّجات اللونية التي لا يعوق اضطرادها شيء لتحديد اتجاه الضوء وكثافته تحديداً واقعياً. فحتى القرن الخامس عشر كان التصوير مقصوراً على استخدام التمبرا Tempera، وهي مزيج من المساحيق اللونية وصفار البيض كان مناسباً لإظهار التفاصيل الدقيقة والألوان الساطعة لكنه لا يتجاوز مرتبة وسطى بين القتامة والإشراق، فالألوان الدكناء ما تلبث أن تخفت إذا رسمت بمزيج التمبرا، والألوان الفاتحة تكاد تتحول إلى البياض فاقدة ذاتيتها. ولا ندري على وجه اليقين حتى الآن ماهية المواد الفعلية التي استخدمها أستاذ فليمال وتعهدها الشقيقان هوبرت ويان فان إيك بالتحسين والتجويد. على أنه من المعروف أنهم بدأوا باستخدام طبقة من التمبرا غشوها تارة بمسحة زيتية لامعة شفافة تكسب الألوان بريقاً، وتارة أخرى غشّوها بلمسات متجاورة بالغة الدقة من طبقات اللون الشفاف أو الكامد وفقاً لاحتياجات التكوين. وبهذا أصبح في الإمكان رفع درجة أي لون رونقاً وتألّقاً، كما احتفظت الألوان القاتمة بحيويتها، فعلى حين أخذت الألوان الداكنة تتدرّج دكنة حتى تغدو فاحمة السواد، أخذت الألوان الفاتحة في التدرج بمنأى عن البياض الجيري، وهكذا تتهادى التدرجات من درجة إلى أخرى من اللون ذاته بسلاسة توحي بسيولة وتدفّق الضوء الحقيقي عبر أي مسطح.
على أننا قد نُجانب الصواب إذا افترضنا أن التصوير الزيتي هو من ابتكار فان إيك، فلقد ظهرت هذه التقنية أول ما ظهرت في الأراضي الواطئة وألمانيا خلال القرن الرابع عشر، لكنها اكتسبت كمالها على يد فان إيك، حتى غالى بعض النقاد في الانبهار به وكأنه صاحب سر خفي في تقنية الألوان الزيتية لم يفضه أحد غيره. ومع هذا فمن المؤكّد أنه كان يتمتع بمهارة فائقة في استخدام العجائن اللونية بحذق ومنهجية خاصة به، وكان يستخدم وسيطاً نقياً مضافاً إليه بعض البرنيق لمساعدته على جفاف اللون بسرعة حتى يستطيع مواصلة العمل دون حاجة إلى التوقّف يوماً أو بعض يوم في انتظار أن يجف اللون.
ومن بين سائر الفنانين الفلمنكيين أتبت يان فان إيك أن التعبير عن العالم الدنيوي في التصوير لا يعني بأي حال الهبوط إلى السوقية، ومن بين كل تصاويره كان البورتريه الذي يضم جوفاني أرنولفيني وعروسه جان تشينامي (لوحات 396، 397، 398، 399، 400) خير دليل على ذلك، إذ تحتشد اللوحة بأدوات الحياة الدنيوية بأشكالها وألوانها وملمسها في تفصيل مذهل لا ينضب. والأدوات المتنوعة في هذه اللوحة على غرار مثيلتها في لوحة البشارة لأستاذ فليمال هي أيضاً رموز تربط غرفة العرس "بسر الزيجة"، إذ يشير زوج القباقيب في الركن الأدنى الأيسر من اللوحة إلى ما جاء بالكتاب المقدس "اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة"، أما الشمعة المضيئة الوحيدة بالنجفة فهي عين الإله الساهرة التي لا يغيب عنها شيء، والجرو اللطيف المستأنس كان رمز الإخلاص والوفاء في العصور الوسطى، أي أهم فضائل الرابطة الزوجية. أما شكل الرأس المحفور على عمود المقعد المجاور للفراش فهو للقديسة مرجريت شفيعة الولادة، والمرآة المحدبة التي يعكس عليها المصور المشهد المقابل فهي رمز الصدق والأمانة (لوحة 401). ومع ذلك فليس بين هذه الرموز كلها ما يعكس الانطباع الرائع الذي يخلفه لنا هذا التكوين الفني من إحساس بالسكينة المطلقة المفعمة بالحيوية في آن معاً.
والحق إن شيئاً مثل هذه الروعة لم تقع عليه عين من قبل أو حتى من بعد، إذ تحوّلت الواقعية البارعة بهذا المستوى الفذ إلى لون من العبقرية لا يتكرر ولا يبارى، فيحس المشاهد أن ليس ثمة وجود مستقل على حدة لأي عنصر من عناصرها، فالألوان والعتاد والأدوات المصورة قد انصهرت جميعاً في نسيج متفرّد جديد لا ينفصل فيه الواقع عن الإيحاء، كما التزم الفنان بقواعد المنظور على نحو ما يبين لنا من مضاهاة فراغ هذه اللوحة المتعدّد المسطحات بفراغ لوحة البشارة ل"أستاذ فليمال"، حيث يتجلّى لنا أن الصورة الأخيرة هي مجرّد سجل لأدوات صورها الفنان تصويراً مستقلاً بعضها عن بعض بدلاً من أن تكون مجموعة متناسقة من الأدوات تترابط عضوياً إحداها مع الأخرى في وحدة منطقية متسقة.
وتعدّ هذه الإنجازات الرائعة للفنان يان فان إيك بواقعيته الرزينة الوقور التعبير الصادق عن العبقرية الفلمنكية. ولعل أصالته فضلاً عن كمال تقنيته الفنية التي لا تبارى تفسّر لماذا كان عصيّاً على غيره من الفنانين تمثّله ومحاكاته باستثناء فنان واحد فقط هو روجييه فان در ويدن.




396

397

398

399

400

401
منقووووووول من كتاب فنون عصر النهضة / ثروت عكاشة / عصر الباورك